فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}
فيه ست مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} رُوي أن هذه الآية نزلت في الجُلاَس بن سُويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقًا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير.
فقال له عامر بن قيس: أجل! والله إن محمدًا لصادق مصدَّق؛ وإنك لشر من حمار.
وأخبر عامر بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وجاء الجُلاَس فحلف بالله عند منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم إن عامرًا لكاذب.
وحلف عامر لقد قال، وقال: اللّهُمّ أنزل على نبيّك الصادق شيئًا، فنزلت.
وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدِيّ.
وقيل حذيفة.
وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق.
وقال غيره: اسمه مصعب.
فهمّ الجُلاَس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}.
قال مجاهد: وكان الجُلاَس لما قال له صاحبه إني سأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك همّ بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك.
قال، ذلك هي الإشارة بقوله، {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}.
وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ، رأى رجلًا من غِفار يتقاتل مع رجل من جُهينة، وكانت جُهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغِفارِيُّ الجُهَنِيّ.
فقال ابن أُبيّ: يا بني الأَوْسِ والخزرج، انصروا أخاكم! فوالله ما مَثَلُنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سَمِّن كَلْبَك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنّ الأعزُّ منها الأذَلَّ.
فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبد الله بن أُبيّ فحلف أنه لم يقله؛ قاله قتادة.
وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قاله الحسن.
ابن العربيّ: وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبيّ.
الثانية قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح.
وقيل: {كلمة الكفر} قول الجُلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًا لنحن أشر من الحمير.
وقول عبد الله بن أُبيّ: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
قال القشيريّ: كلمة الكفر سبُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والطعنُ في الإسلام.
{وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} أي بعد الحكم بإسلامهم.
فدلّ هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3] دليل قاطع.
ودلّت الآية أيضًا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة.
قال إسحاق ابن رَاهْوَيه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا: من عُرف بالكفر ثم رأُوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلّى صلوات كثيرةً، ولم يعلموا منه إقرارًا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل ذلك.
الثالثة قوله تعالى: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} يعني المنافقين من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلًا.
قال حذيفة: سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدّهم كلهم.
فقلت: ألاَ تبعثُ إليهم فتقتلَهم؟ فقال: «أكره أن تقول العرب لمّا ظفِر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله الدُّبَيْلة».
قيل: يا رسول الله وما الدُّبيلة؟ قال: «شهاب من جهنم يجعله على نِياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه».
فكان كذلك. خرّجه مسلم بمعناه.
وقيل هَمّوا بعقد التاج على رأس ابن أُبَيّ ليجتمعوا عليه.
وقد تقدّم قول مجاهد في هذا.
الرابعة قوله تعالى: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} أي ليس ينقمون شيئًا؛ كما قال النابغة:
ولا عَيْبَ فيهم غير أن سيوفهم ** بهنّ فُلول من قِراع الكتائب

ويقال: نَقَم ينقِم، ونَقِم ينقَم، قال الشاعر في الكسر:
ما نقِموا من بني أُميّة إلا ** أنهم يحلمُون إن غضبوا

وقال زهير:
يؤخّرْ فيوضع في كتاب فَيُدَّخَرْ ** ليوم الحساب أو يُعَجّلْ فينقَمِ

ينشد بكسر القاف وفتحها.
قال الشعبِيّ: كانوا يطلبون دِيَّةً فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا: ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفًا.
ويقال: إن القتيل كان مَوْلَى الجُلاَس.
وقال الكلبيّ: كانوا قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم.
وهذا المثل مشهور (اتق شر من أحسنت إليه).
قال القشيرِيّ أبو نصر: قيل للبَجَليّ أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
الخامسة قوله تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب.
فدل هذا على توبة الكافر الذي يُسِر الكفر ويُظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق.
وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعيّ: تقبل توبته.
وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويُسِرّ الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله.
وكذلك يُفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغيّر حاله عما كان عليه.
فإذا جاءنا تائبًا من قِبل نفسه قَبْل أن يعثر عليه قُبلت توبته؛ وهو المراد بالآية.
والله أعلم.
السادسة قوله تعالى: {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا} في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
{وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ} أي مانع يمنعهم {وَلاَ نَصِيرٍ} أي معين. وقد تقدّم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}
اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقال عروة بن الزبير: نزلت في الجلاس بن سويد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء.
فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًا لنحن شر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلت وخفت أن ينزل في القرآن أو أن تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.
قال فدعا الجلاس، فقال له: يا جلاس أقلت ما قال مصعب؟ فحلف ما قال، فأنزل الله: {يحلفون بالله ما قالوا} الآية.
وروي عن مجاهد ونحوه.
وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل حجرة فقال: «إنه سيأتينكم إنسان فينظر إليكم بعين الشيطان فإذا جاء فلا تكلموه»، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنه فأنزل الله: {يحلفون بالله ما قالوا}.
ثم نعتهم جميعًا إلى آخر الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي سلول للأوس: انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قال فأنزل الله هذه الآية، هذه روايات الطبري.
وذكر البغوي عن الكلبي قال: نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسًا وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمد صادقًا لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس.
فقال الجلاس: كذب يا رسول الله عليّ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب على عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يده إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فإن يتوبوا يك خيرًا لهم فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه فتاب وحسنت توبته فذلك قوله سبحانه وتعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} يعني أظهروا كلمة الكفر بعد إسلامهم وتلك الكلمة هي سب النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقًا لنحن شر من الحمير وقيل هي كلمة علد الله بن أبي سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين إن شاء الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى: {وهموا بما لم ينالوا} قال مجاهد: همَّ الجلاس بقتل الذي سمع مقالته خشية أن يفشيها عليه وقيل همَّ عبد الله بن أبي بن سلول وكان همه قوله لئن رجعنا إلى المدينة فلم ينله وقيل: همَّ اثنا عشر رجلًا من المنافقين بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا على العقبة وقت رجوعه من تبوك ليقتلوه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك.
وقال السدي: قال المنافقون إذا رجعنا إلى المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي سلول تاجًا فلم يصلوا إليه {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} يعني وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله والمعنى أن المنافقين علموا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقموا عليه وقيل إنهم بطروا النعمة فنقموا أشرًا وبطرًا وقال ابن قتيبة: معناه ليس ينقمون شيئًا ولا يتعرفون إلا الصنع وهذا كقول الشاعر:
ما نقم الناس من أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئًا فهو كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهنَّ فلول من قراع الكتائب

أي ليس فيهم عيب.
قال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم.
فعلى هذا القول يكون الكلام عامًا.
وقال عروة: كان الجلاس قتل له مولى فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى.
وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أبي دية فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
وقال عكرمة إن مولى لبني عدي قتل رجلًا من الأنصار فقضى له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفًا وفيه نزلت {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} {فإن يتوبوا يك خيرًا لهم} يعني: فإن يتوبوا من كفرهم ونفاقهم يك ذلك خيرًا لهم في العاجل والآجل {وإن يتولوا} يعني وإن يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر {يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا} يعني بالخزي والإذلال {والآخرة} أي ويعذبهم في الآخرة بالنار {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} يعني وليس لهم أحد يمنعهم من عذاب الله أو ينصرهم في الدنيا والآخرة. اهـ.